كان يخبئ لهذه الأمة صناعة مجد عجيب؛ ففي الجانب الآخر من الخريطة حيث كانت قبيلة قايى التركية المسلمة تحتضن مولودها الجديد في نفس هذا اليوم الكارثي، في خيمة زعيم القبيلة الغازي أرطغرل بن سليمان شاه وزوجته حليمة خاتون. سماه والده باسم عثمان خان، تيمنًا باسم الخليفة الثالث وأحد المبشرين العشرة بالجنة: عثمان بن عفان رضي الله عنه.
ولم يكن يعلم أرطغرل يومئذ أن أصغر أبنائه سنًا، عثمان، سيقترن اسمه بقيامة دولة إسلامية مترامية الأطراف تعيد للخلافة التي اندثرت في بغداد أمجادها، وتسجل أحد أروع سير بناء الدول في تاريخ المسلمين، وتنال شرف فتح القسطنطينية عاصمة الروم البيزنطيين سنة 1453 م، كما نبأنا بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما سيُحدِث انعطافة تاريخية عالمية بنهاية العصور الوسطى وبداية العصور الحديثة بحسب المؤرخين. دولة يدوم ملكها لـ6 قرون متواصلة، تترامى أطرافها شمالًا وغربًا في أوربا، وتملك بلاد القرم ومحيط البحر الأسود وبلاد القفقاس وأوربا الشرقية وبلاد البلقان، وتصل إلى وسط النمسا وشمال إيطاليا، فكانت أول دولة مسلمة في التاريخ الأوربى تصل بجيوشها الجرارة إلى قلب أوربا. وتنعطف جنوبًا لتملك الشام والعراق، والحجاز واليمن، ثم وسط شمال إفريقيا وأكثر جزر البحر الأبيض المتوسط، وتستلم مفاتيح مصر وتستلم معها مقاليد الخلافة من آخر الخلفاء الرمزيين لبني العباس الذين كانوا في القاهرة في كنف دولة المماليك سنة 922 ه، وتزدان بتاريخ ماجد جمع شتات المسلمين تحت رايتها، راية الجهاد التي شقت الأرض دفعًا وطلبًا في مواجهة دول وممالك أوربا الذين ورثوا راية الروم بعد سقوط القسطنطينية.
ولا شك أن أرطغرل الذي تمرّس فنون الفروسية وشهدت له الأرض بمسيرة جهاد مبهرة وفتوحات مثيرة أورث ابنه أسرار النجاح والوصايا النيّرة التي فعلت مفعولها في مستقبله، كما ورثها من والده سليمان شاه الذي قضى نحبه غرقًا أثناء عُبوره نهر الفُرات بِحصانه؛ فأفلحت تربيته وبارك الله في نسله عقودًا متوالية.
وقبيلة قايي التركية الغُزيَّة (الأوغوزيَّة) التي يقال إنها تعود إلى يافث بن نوح، دفعها تقدمُ المغول في أوائل القرن الثالث عشر الميلاديّ إلى النزوح غربًا صوب الأناضول، حيثُ سكنت في منطقة تابعة لسلطنة السلاجقة، وحازت على دعم الدولة السلجوقية وسلطانها علاء الدين الذي أقطع أرطغرل مناطق كثيرة بعد أن حاز على ثقته بسبب شجاعته وحبه للغزو والقتال.
وحين توفي أرطغرل عن عمر يناهز التسعين بمرض النقرس بعد سيرة حافلة بالفتوحات والانتصارات، كان قد أسس لقبيلته ولدولة السلاجقة مكانة قوية في المنطقة. وأورث هذه المكانة لابنه عُثمان وهو في سن الرابعة والعشرين على الأرجح، نظرًا لكفاءته وقدراته القيادية التي أظهرها خلال مرافقة أبيه في الحروب والغزوات وخلال مجالس القضاء والمشورات، فاستلم عثمان قيادة القبيلة واستمر على نهج أبيه، وحقق نجاحات مبهرة. وكذلك فعل خُلفاؤه، فقد تابعوا الحملات التي بدأها عثمان إلى أواسط القرن السَّابع عشر الميلاديّ، لتتحول الإمارة التي وضع أُسسها إلى إمبراطورية عالمية كبرى.
وأشار عدد من المُؤرخين إلى أن عثمان قد خاض معركة داخلية شرسة انتهت بضبطه السيطرة على مقاليد حكم قبيلته، وكانت هذه المعركة على العرش مع أقرب أقاربه، عمه “دوندار غازي”. وفي هذا الشأن نقل قادر مصر أوغلو في كتابه”مأساة بني عثمان” عن المؤرخ التركي خير الله الهندي الذي عاصر عثمان بن أرطغرل، أن دوندار كان طرفًا في مؤامرة اتفق على تدبيرها بالتعاون مع حاكم